وأبرز المتحدثون، خلال هذا المحفل العلمي الذي ينظم بشراكة مع رابطة العالم الإسلامي والرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، تحت شعار "نحو رؤية مستقبلية للسيرة النبوية"، أن كتابة السيرة النبوية يجب أن تتجاوز الجانب الدعوي وتتنقل إلى تدوين ينطلق من منطلق الاستجابة للتحديات والأزمات التي تواجهها المجتمعات الحالية، قياسا على تعامل الرسول (ص) مع المجتمع المدني (المدينة) والمجتمع المكي (مكة)، واستنباط القيم من هذه السيرة، بما فيها قيم التسامح والتآزر والمناصرة والتراحم والتكافل، حيث كان المصطفى عليه السلام يحرص على تربية أصحابه على المنهج الوسطي وتعزيزه في نفوسهم، ويدعوهم إلى مراعاة كافة جوانب الحياة.
ومن مظاهر نبل السيرة النبوية الشريفة، والتي يجب أن تنكب الجهود العلمية على دراستها، وفقا للمتدخلين، التعامل المرن والتسامح الذي كان يتصف به الرسول الكريم مع من عاش معه في عصره، بالرغم من اختلاف توجهاتهم ودياناتهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يتوانى عن دعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام، وذلك بلطف ورحمة، كما أنه لم يرفض أن يعيش اليهود والنصارى مع المسلمين داخل المدينة، وأقر لهم حقوقا تحميهم، ولم يقتل يهوديا أو نصرانيا بسبب ديانته.
وأجمع المتدخلون على أن استنباط الدروس من حياة الرسول الكريم ضروري في وقت يطبعه تنوع ديموغرافي وإيديولوجي، بهدف استخلاص ما فيها من القواعد الشرعية والأصول المرعية، في التعامل مع كل مرحلة وحالة يمر بها الإنسان، لاسيما أن رسول الله كان "رحمة للعالمين" و"كان خلقه القرآن" الذي قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
وأكد المتدخلون أن تحديات الزمن الراهن الذي تطبعه قضايا كالهجرة والصراعات الإيديولوجية "تدفعنا إلى تغيير التعامل مع المنهج النبوي وإعادة النظر إلى المجال الديني وكيفية تطبيقه الأمثل، والقيام بدراسته دراسة عميقة قائمة على تحديات العصر الحالي، مستشهدين، في هذا الصدد، بصور الحاكم والقائد والراعي الذي يقيم العدل بين الرعية التي كان يتصف بها النبي، فهو صلوات الله وسلامه عليه أعدل الناس، وأبعدهم عن الظلم، وكان مثالا للعدل مع أهله وأولاده وأصحابه، ومع القريب والبعيد والصديق والعدو والمؤمن والكافر.
وتطرق المتدخلون، في هذا السياق، إلى العديد من القيم الحضارية في حياة "أعظم بشر وأفضل نبي"، انطلاقا من ميلاده وطفولته وبداية بعثته ونزول الوحي عليه، كما رصدوا الأخلاق والشمائل التي يتسم بها، من سلم وهداية وتسامح، فهو قدم طريقة عيش راقية وسليمة تناولت حميع المجالات، بما فيها الطعام والشراب والتربية والتعليم والدعوة والإرشاد.
وخلص المتدخلون إلى أن شخصية الرسول الكريم تستحق أن تكون موضع دراسة تؤسس نتائجها لأسس التعامل مع الأفراد والتعايش المشترك، ودحض كل الأفكار التي يتم ترويجها من طرف بعض الجهات والتي لا علاقة لها بالإسلام وبالرسول، مذكرين، في هذا السياق، ببرنارد شو الذي قال "إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
وعرفت هذه الندوة، التي تناولت موضوع السيرة النبوية والجهود العلمية، وكذا السيرة النبوية والأبعاد الوظيفية، مشاركة العديد من الباحثين والدارسين، من بينهم مدير العلاقات الثقافية بجامعة كوفنتري بالمملكة المتحدة، مايك هاردي، والاديب والشاعر السعودي، حسان الطيار، وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة قطر، عزيز البطيوي، وأستاذ الدراسات العربية والإسلامية بإسبانيا، نيقولاس روزير نيبوت، علاوة على علماء في الدراسات الإسلامية والسيرة النبوية من كندا وفرنسا والإمارت العربية المتحدة والشام والمملكة المغربية.
ويهدف هذا المؤتمر، الذي ينعقد أيضا عبر تقنية الاتصال المرئي، إلى إعداد استراتيجية تواصلية للتعاطي مع الأبعاد الوظيفية للسيرة النبوية، وحصر الإشكالات الذاتية والموضوعية في التعامل معها، وتجميع وترتيب الجهود العلمية في مجال البحث في السيرة النبوية، وبناء رؤية متجددة بآفاق مستقبلية لها.
كما يتوخى تمكين المنظمات والهيئات العاملة في مجالات التربية والثقافة والعلوم والاتصال من آليات وأدوات عمل منهجية في بناء مخططات عمل وخبرات في مجال التعريف بالسيرة النبوية.
وحسب الإيسيسكو، فإن هذا المؤتمر يأتي ردا علميا وعمليا على محاولات الإساءة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي إطار رؤية المنظمة واستراتيجية عملها الجديدة، التي تجعل منها منارة إشعاع حضاري دولي.
وستُختتم أشغال المؤتمر بإصدار إعلان وتوصيات تنفيذية سيتم تعميمها بعدد من اللغات على جميع المنظمات الدولية والمؤسسات والهيئات المختصة في الثقافة والحوار الحضاري.