وعلى الرغم مما يدره هذا النشاط الأهلي من عائدات معتبرة تنعش خزينة الدولة الموريتانية، ومساهمته في امتصاص البطالة، حيث يوفر آلاف مناصب الشغل، فضلا عن الرواج التجاري الذي يخلقه بشمال البلاد، وخصوصا في ولاية تيرس زمور ومدينتها المنجمية الزويرات، فقد أثار استخدام المشتغلين به مواد كيماوية سامة مثل "السيانيد" والزئبق، لمعالجة الحجارة المشبعة بالذهب، استياء الساكنة، التي عبرت عن رفضها القاطع لاستخدام هذه المواد، لما ينتج عنها من أضرار بالبيئة، ومن عواقب وخيمة على صحة المواطنين.
فمنذ أن رخصت السلطات الموريتانية للتنقيب التقليدي عن الذهب، سنة 2016، وفتحت مناطق محدودة أمامه، شهد هذا النشاط إقبالا منقطع النظير من طرف فئات عريضة من الموريتانيين، وبدرجة أقل الأجانب، ولو في غياب أي إطار قانوني أو مؤسسي واضح ينظمه.
وبمجرد أن فتحت السلطات، سنة 2018، مجال منح رخص جديدة للتنقيب عن الذهب السطحي، وخاصة بمنطقة (اگليب اندور) في ولاية تيرس، حتى تدفق أزيد من 7000 شخص لطلبها، مقابل دفع 6000 أوقية قديمة للفرد (أورو واحد يساوي حوالي 420 أوقية قديمة)، وسمحت أيضا للعربات بالدخول إلى المنطقة، مقابل دفع 10 آلاف أوقية عن كل واحدة منها.
كما أعلنت السلطات الموريتانية، مؤخرا، عن فتح 11 منطقة جديدة أمام المنقبين عن الذهب السطحي، تمتد على مساحة 104 آلاف كلم مربع، كانت مصنفة كمناطق عسكرية مغلقة، وذلك استجابة لمطلب قديم للمنقبين، وفي ظل الإقبال المعتبر على هذا النشاط، وكذا في مسعى لتوطيد البنيات التحتية الداعمة للقطاع المعدني بموريتانيا، والرفع من جاذبيته، ومن مردوديته وانعكاساته الاقتصادية.
وبحسب أرقام تقريبية كشف عنها وزير النفط والطاقة والمعادن الموريتاني، عبد السلام ولد محمد صالح، فإن القيمة المضافة لاستخراج الذهب السطحي بالبلاد بلغت 74 مليار أوقية سنة 2019، علما بأنه يتم بيع كميات من المعدن النفيس للبنك المركزي الموريتاني، في حين تصرف كميات أخرى في السوق السوداء.
وكشف الوزير أيضا عن أن المبيعات خلال الثمانية أشهر الأولى من سنة 2020 ناهزت 5 أطنان من الذهب، أي ما يعادل ثلث إنتاج الشركات الكبرى العاملة في هذا المجال بموريتانيا، على غرار شركة تازيازت، مشيرا إلى غياب رقم محدد بخصوص رقم أعمال المنقبين حتى الآن.
وفي مقابل هذه العائدات المهمة، فإن الإقبال بكثافة على التنقيب عن الذهب السطحي، خاصة وأن ارتفاع سعر الذهب يوفر عائدات مجزية، أدى إلى حالة من "الفوضى وعدم الانضباط"، و"ما رافقها من خسائر بشرية وبيئية وأمنية، وفي بعض الأحيان إلى تشجيع التهريب وتبييض الأموال"، وفق ما جاء على لسان وزير النفط والطاقة والمعادن الموريتاني نفسه.
وأدى الترخيص، في الآونة الأخيرة، لمصانع متنقلة تستخدم مادة "السيانيد" الكيماوية في معالجة نفايات المطاحن التقليدية للذهب، ولجوء المنقبين بطرق تقليدية إلى استعمال مادة الزئبق للغرض ذاته، إلى تجدد الجدل حول هذا الموضوع، وإلى خروج الساكنة في مظاهرات احتجاجية، تعبيرا عن رفضها القاطع لتشييد هذه المصانع، وممارسة نشاط التنقيب على مقربة من مناطق إقامتهما، بالنظر لما تلحقه من أضرار بالبيئة (مياه، مواشي، مراعي، تلوث الهواء..)، فضلا عن ما قد تتسبب فيه من أمراض خطيرة ومزمنة.
ووفقا لساكنة ولاية تيرس زمور، فإن استعمال مادة "السيانيد"، الملوثة للبيئة، والمسببة لأمراض مستعصية، والقاتلة للحيوان والحارقة للبشرة، لا يمثل الكارثة الوحيدة التي تهدد بيئتهم وصحتهم، بل هناك أيضا الزئبق الذي "ينتشر بفوضوية" بين المنقبين التقليديين عن الذهب، فضلا عن الخطر الذي يمثله مرض "السيليكوز"، الذي سبق وأودى بحياة الكثير من أبناء الولاية.
واستنادا لنشطاء حراك "بيئتي في خطر" بالولاية، فإن الترخيص لهذه المصانع جاء "مخالفا للقانون، وقبل إعداد دراسة للأثر البيئي تشارك فيها الساكنة".
وقد دخل على خط هذا الجدل رئيس البرلمان، الشيخ ولد بايه، خاصة بعد أن وصلت المفاوضات بين السلطات والساكنة إلى الباب المسدود، حينما صرح بأن "ولاية تيرس زمور في غنى تام عن تلويث ما تبقى من أراضيها بمواد التعدين السامة"، وأن مراعيها تستحق العناية والحفاظ عليها مراعاة للمصلحة العامة، معربا عن اعتقاده بأن "المنطق يقتضي حصر التلوث في مكان واحد، ولو تطلب الأمر نقل الحجارة نحو المنطقة الملوثة أصلا، تفاديا لانتشار البلاء، وحصرا لتمدده".
من جهته، طالب المجلس الجهوي بتيرس زمور بوقف كل أنشطة معالجة التربة المشبعة بالذهب، حتى تقدم دراسة للأثر البيئي معدة من قبل مكاتب دراسات خاصة ومعتمدة من وزارة البيئة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يندلع فيها الجدل حول استعمال مواد كيماوية في مجال التنقيب عن الذهب، أهليا كان أو شبه صناعي، أو حتى صناعي، فقد سبق أن شهدت، سنة 2017، أزمة حادة بين ساكنة بعض مناطق ولاية داخلت نواذيبو، وشركة (تازيازت) العاملة في مجال استغلال الذهب.
ومرد ذلك إلى "ارتفاع مستوى التلوث البيئي" ونسبة "السيانيد"، التي "نخرت جوف المنطقة بأكملها مشكلة أنهارا تغطي نسبة 18 في المائة من مساحتها الإجمالية الأمر الذي تسبب في قتل البشر والشجر"، و"جعل من استغلال الأراضي، التي تزخر بالذهب، لأغراض تنموية ضربا من المستحيل"، على حد تعبير الساكنة المحلية.
ولإخراج هذا النشاط من حالة الفوضى التي يعيشها، أنشأت الحكومة، منذ أشهر قليلة، شركة (معادن موريتانيا)، وأوكلت لها مهمة ضبط القطاع وإيجاد إطار قانوني ومؤسسي يضمن الرفع من مردوديته والحد من انعكاساته السلبية على البيئة والصحة.
وعلى أمل وضع حد لهذا الجدل، أكد الرئيس الموريتاني، محمد ولد الشيخ الغزواني، مؤخرا، في مدينة الزويرات بولاية تيرس زمور، أنه "لن يكون هنالك أي تسامح أو تساهل مع أي شيء يمكنه أن يضر بصحة المواطن أو الماء أو مراعي الحيوان"، وطمأن المواطنين، على أنه "لن تتم التضحية بصحتهم أو سلامتهم من أجل أي نشاط مهما كان".
وفي خضم هذا الجدل القديم / الجديد، جاء إعلان الحكومة الموريتانية، أواخر أكتوبر الماضي، عن إحداث شرطة بيئية ليشكل بارقة أمل "لمواجهة تفاقم الانتهاكات المضرة بالبيئة"، حيث ينتظر من هذا المرفق العمومي أن يمثل "أداة فعالة لتنفيذ سياسة الحكومة في مجال المحافظة على الموارد الطبيعية والبيئة والتنوع البيولوجي".