وبالرغم من الظروف الاستثنائية التي فرضها انتشار فيروس كورونا، أبت ساكنة لؤلؤة الجنوب المغربي، التي قدمت خلال الأسابيع الأخيرة أروع نموذج في الامتثال الصارم لما تفرضه حالة الطوارئ الصحية ببلادنا، إلا أن تؤدي شعائرها الدينية في أجواء من الانضباط والمسؤولية مع الحفاظ على الموروث الثقافي والحضاري السائد محليا.
كما حرصت الأسر المحلية على المحافظة، قدر الإمكان، على عاداتها وواجباتها الاجتماعية، لاسيما طقوس شرب الشاي الصحراوي وإعداده، التي اقتصرت على أفراد الأسرة الواحدة، التزاما بتدابير الحجر الصحي وإجراءات التباعد الاجتماعي. وكذلك الأمر بالنسبة لجلسات السمر والتسلية بالألغاز أو ما يعرف محليا "التحاجي" أو لمراد" حيث يتم سرد العديد من الحكايات الشعبية الأصيلة.
وامتثالا لحالة الطوارئ الصحية، غابت عن مدينة الداخلة كذلك الأمسيات الرمضانية الثقافية والرياضية والمناسبات الاجتماعية، التي تتميز عادة بالتداول الشفهي للشعر الحساني والفصيح، والتنافس في الشعر الارتجالي "لقطاع"، بالإضافة إلى الألعاب الشعبية المحلية مثل "ضامة و"السيك" والألعاب العصرية مثل "الورق" و"الدومينو" وغيرها.
لكن بالمقابل، شهدت مدينة الداخلة، خلال شهر رمضان، تنظيم عدد من الأنشطة والمسابقات الدينية والثقافية عن بعد، من خلال اللجوء إلى التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي كدعامة أساسية للإرشاد والوعظ الديني والتفتح العلمي والثقافي والمعرفي، لمواكبة هذا الشهر الفضيل بما يقتضيه من توجيه وتأطير للمواطنين.
وإذا كان غياب الأجواء الدينية والروحانية والاجتماعية، المعتادة خلال هذا الشهر الفضيل، يشكل القاسم المشترك بين مختلف جهات المملكة، إلا أن العادات والأطباق الغذائية المواكبة لهذا الشهر الفضيل تختلف من جهة لأخرى باختلاف الخصوصيات السوسيو-ثقافية والحضارية والتراثية المحلية.
وهكذا، تحفل حاضرة إقليم وادي الذهب، على غرار باقي جهات المملكة، بعادات غذائية متميزة وأطباق متنوعة تؤثث موائد الإفطار وتعكس غنى وتنوع الموروث الحضاري والاجتماعي للجهة، الذي تحرص الأجيال المتعاقبة على الحفاظ عليه وتثمينه على نحو أفضل.
وفي هذا الصدد، تقول السيدة (السعدية.ع) ربة بيت، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، "يظل الشاي واللبن والتمر واللحم من بين المكونات الرئيسية التي تؤثث مائدة الإفطار الرمضانية في إقليم وادي الذهب، والتي تحرص الأسر المحلية على توفيرها وإعدادها لتكون المائدة مكتملة".
وتتكون المائدة الرمضانية المحلية من الشاي الصحراوي، الذي يتم تحضيره من خلال "مواعين أتاي" قبل أذان المغرب ليكون جاهزا عند الإفطار، حيث يتم تناوله مع حبات من التمر و"زريك اللبن". هذا الأخير هو عبارة عن مشروب يحضر بالحليب واللبن (الإبل أو الماعز) والماء، ويضاف إليه السكر حسب الحاجة، حيث يتم خلط مكوناته ووضعها في إناء يسمى "الكدحة".
وأضافت أن سكان المنطقة يحرصون على إعداد "الطاجين" الذي يختلف عن ما هو موجود في باقي جهات المملكة، إذ يتكون من "لحم الفلكَة" (الإبل) أو "لحم أفشاي" (الغنم). بعد ذلك يتم تناول طبق "النشا"، المعد بالماء المغلي والشعير وقليل من الملح ليتم تقديمه في آنية من الخشب.
كما تتضمن مائدة الإفطار طبق "لكلو"، وهو شعير يتم إعداده من خلال مزجه مع حفنة من الرمل لإنضاجه فوق الجمر باستعمال إناء من الطين مخصص لهذا الغرض. وبعد الحصول على حبات من الشعير الأحمر، يتم نزع الرمل بواسطة الغربال، لكي يتم بعد ذلك تقديمه مع السمن أو الزبدة.
وتتزين المائدة الرمضانية كذلك بخبز "الفطير"، الذي يتم تحضيره من دقيق الشعير والماء فقط، دون إضافة ملح أو خميرة، ويتم إنضاجه على الطريقة التقليدية وذلك من خلال وضعه في حفرة رملية تغطى بالجمر. وبعد إخراج الفطير من تحت الرمل، يتم تقطيعه ووضعه في صحن يرفق بالمرق المكون من لحم الإبل.
كما تحرص الأسر في المناطق الجنوبية، خلال شهر رمضان، على تناول طبق "مارو باللحم"، الذي يتم إعداده من خلال وضع لحم الإبل داخل قدر خاص مع قليل من الزيت والملح والماء، وإضافة الأرز ليطبخ في مرق اللحم، ليتم تقديمه في صحن كبير.
تجدر الإشارة إلى أن المجتمع المحلي شهد بدوره تحولات سوسيو-اقتصادية ساهمت في تغير نمط عيشه، إذ أضحت بعض هذه العادات والتقاليد في الوقت الراهن شبه غائبة عن موائد الإفطار، كما لجأ البعض إلى مزج العادات والأطباق الرمضانية المحلية مع أطباق أخرى أخذت مكانا لها فوق المائدة الصحراوية، في مقدمتها حلوى "الشباكية" و"سليلو" وغيرها.
ويعكس تنوع الأطباق الرمضانية في مدينة الداخلة وباقي الأقاليم الجنوبية عموما، تاريخ وحضارة المنطقة، كما يبرز المكانة التي يحظى بها شهر رمضان لدى الساكنة المحلية باعتباره شهرا مباركا يتسم بنفحات دينية وروحانية، وتسوده أجواء التسامح والتراحم وقيم التعاون والتضامن.