قررت الشابة - واسمها راضية عبد الرحمن - أن تخضع نفسها لعزل طوعي وابتعدت ما أمكنها الابتعاد عن أفراد الأسرة. كان تصرفا احترازيا أملاه الحب الذي تكنه لهؤلاء. هي لا تريد أن تكون سببا في أذية أحد. لذلك خمنت أن الحجر المنزلي قد يكون السلوك الأمثل قبل ظهور نتائج الاختبار.
ثم ظهرت النتائج وتأكدت الإصابة بكوفيد - 19 فنقلت الفتاة إلى مستشفى بوفار بالعاصمة. ولأن الحكايات المفعمة بالإنسانية عادة ما تنتهي بالأحداث السعيدة فقد كانت راضية أول حالة شفاء من الوباء بجيبوتي وحظيت باستقبال من أعضاء بالحكومة ووشحت بوسام تكريمي، هو وسام السابع والعشرين من يونيو برتبة ضابط – "لأنها تمثل مثالا يحتذى، فيما يتعلق بحماية الآخرين من العدوى".
باتت هذه الفتاة "حالة يقظة عامة" تفتح الأعين على الحل المتاح: العزل لمنع تفشي الوباء. في جيبوتي، تتردد هذه الكلمة - المفتاح على أثير الإذاعة والتلفزيون وبالشوارع والأزقة وفي الشبكات الاجتماعية.. وحتى حين يرن الهاتف يتوقف لحظات ثم ينطلق الصوت الناصح باللغات المتداولة: "أبقوا في بيوتكم". ويبدو أن الأمر أشبه بحالة تعبئة شاملة تتوخى كسب الرهان في بلد صغير حقا بحجم سكانه (أقل من مليون نسمة) لكنه كبير جدا بطموح أبنائه.
في حي ستة بالعاصمة مشاهد أخرى. يفترش رب الأسرة سجادة طويلة في طرفها وسادة، على عادة أهل البلد. وفيما يتخذ الأبناء مجالسهم على الأرائك في الصالون يفضل هو جلسته المتأملة قبالة باب البيت يراقب "قواعد الحجر". في مدخل المنزل، إناء بلاستيكي كبير أسفله صنبور وسوائل صابون. يمد الأب، ويدعى مهدي، عينيه من وراء الباب فيلمح ابنه قادما.. الجملة - اللازمة تنساب على شفتيه: - نظف يديك بالماء والصابون وخذ المنديل..!
ويتبدى هذا النزوع نحو الوقاية، بوصفها الطريق الأمثل لوقف انتشار الوباء، في السلوك العام. ينزع الجيبوتيون نحو الهدوء والوداعة والطيبة. شعب مضياف على السجية يحب الناس ويقبل على الحياة. أما نمط العيش السائد فهو أن يلتقي الناس ويتحدثون ويضحكون ويتصافحون.. في تقبل فريد للذات وللآخر على السواء. لكن كل ذلك لم يعد ممكنا في الوقت الراهن. تقول وزيرة الشؤون الاجتماعية والتضامن منى عثمان آدم إنها "طريقتنا في الحياة.. نحن نعيش سوية.. لكن العزل هو الوسيلة الوحيدة لوقف الانتشار السريع لهذا الوباء".
تنضح العاصمة بالحياة في أيامها العادية. في وسط المدينة، حيث تطل صومعة حمود على الأسواق والحوانيت، تدب الروح في أوصال الشوارع والأزقة. مشاهد حية تحت الصومعة البيضاء العتيقة: الحركة الدائبة واللغط المتصاعد - وادعا - بلهجات لا تفرز أذن السامع منها سوى كلمات فرنسية وعربية وإنجليزية. يؤكد زائر لجيبوتي أنها "الحرارة الإنسانية". شيء ما لا تراه العين ولا تقبضه اليد ولكنه "أقرب إلى جرعة الماء البارد في يوم قائظ.. إنه شعور أشبه بالامتلاء وبالسلام الداخلي"، يقول آخر.
غير أن تدابير العزل العام التي تفرضها السلطات الجيبوتية منذ أسابيع صبغت حياة الناس في هذه الربوع بصبغة أخرى. لا مفر من الحجر المنزلي الصارم. ولا مناص من تطبيق التدابير الاحترازية الشخصية: النظافة والكمامة والتباعد الاجتماعي. ثمة قناعة راسخة في هذا البلد أن عودة الحياة إلى انسيابها الاعتيادي رهينة بالامتثال لهذه التدابير، وهو عين ما أكد عليه الرئيس إسماعيل عمر جيله في خطاب متلفز تناول آخر التطورات ذات الصلة بكوفيد - 19 في البلاد.
في مشهد آخر عبر جيبوتي - المدينة: سوق ممتاز بحي إيرون - أحد الأحياء الراقية بالعاصمة. يقف في مخرج السوق المسقوف صف طويل متقطع. مسافة الأمان ترصدها العين بوضوح. وغير بعيد، ينتظر رجل أربعيني أن تفرغ سيدة من التقاط علبة العصير. يقرأ المتابع تفاصيل "الاحتياط" في حركة الرجل وفي عينيه. مشهد معبر بدلالة قوية: الأمر جد لا يحتمل التهاون! وهو أبعد من ذلك مؤشر على الإحساس بالمسؤولية. يؤكد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، الناطق الرسمي باسم الحكومة محمود علي يوسف أن التصدي للوباء يمر عبر مسلكين: "التماسك الوطني" و"التضامن الوطني". جناحان يحملان البلد فوق هذه الجائحة التي باتت تنتشر بسرعة في أنحاء العالم.
ولا تخطئ عين الملاحظ الجهود الحثيثة التي تبذلها السلطات في هذا البلد لمواجهة الوباء وتداعياته. في الصحة العامة كما في الشق الاجتماعي: توعية واسعة النطاق واختبارات للكشف عن المرض ومحاجر صحية وتوزيع للمواد الغذائية على الفئات المتضررة من تدابير العزل العام.
لكن اللافت أن البيئة الحاضنة تبدي - بعفوية بالغة - تلاؤما متزايدا مع هذه التدابير التي كسرت عادات أهل البلد وبدلت أنماط حياتهم. ولعل الكثير منهم يشتاقون إلى جلسة مسائية على شاطئ البحر الهادئ كأنه صفحة ماء مستقرة لا تتحرك. وربما حدثتهم أنفسهم بوقفة عابرة عند محلات بيع السمبوسة قرب ساحة ريمبو الشعبية. وقد يفكرون في لقاءاتهم اليومية على مصاطب البيوت وأحاديثهم الوادعة الرائقة..
ولكن كل ذلك بات مؤجلا إلى حين.. وهم يعرفون ذلك ويدركونه.. مثلما يدركون أن الحياة ستعود إلى سابق عهدها.. بالعزل والحجر وتدابير الوقاية.. لكن - قبل ذلك وبعده وإبانه - بالحب الذي يهزم الوباء.